اغتـيـال مُتـَقاعِـد-محمودمحمدأسد- سوريا
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

اغتـيـال مُتـَقاعِـد

  محمودمحمدأسد    

الأستاذ نبيل تبلَّغَ دعوةَ نقابته لحضور حفل تكريم المتقاعدين بالتأكيد هو واحدٌ من المكرَّمين …         قال في نفسه :
خدمتُ لثلاثين عاماً في سلكٍ يصعب على المرء أن يستمرَّ فيه … كنْتُ أعيش بسبع أرواح … قبلْتُ التحدِّي مع الكثيرين … بالفعل حدَّثَ نفسَهُ بعد انقطاعٍ عن العالمِ و انزواءٍ. حرّكتْهُ هذه الدعوة … أعدَّ عدَّتهُ، بحثَ عن أحدثِ الثيابِ التي مرَّ عليها عقدٌ من الزمن … اشتراها بمناسبة زواج ابنه البكر و كرّر ارتداءَها يومَ زواج ابنته ليلى … و هاهو يقول من جديد :
(( المهمُّ رتابةُ الروحِ و نظافةُ اليدِ و حسنُ الختام … و أخذ نظرةً من مرآةٍ مغبَّرةٍ متشظّية و قال في نفسِهِ : الحمد لله … الحمد لله … هناك بقيَّة من صحة و نضارة …
جرى الاحتفالُ الذي أشْعلَ ذكرياتِهِ و أعادَه لسنوات خَلَتْ … كان احتفالاً أنيقاً جمع مسؤولي البلد . استمع إلى كلمات التمجيد التي لم تشأْ ذكرَ فضلِهِ على الموجودين . قُدِّمَتِ الهدايا للمكرَّمين … كان وحيداً … لا زوجةً معه .. لا أولادَ يباركون له .. جرَّ قدميه و هو يحمل شهادة التكريم و بطاقةَ دعوة لشخصين في مطعم مشهور …
منذ البداية شعر بالفرحِ و السرور ، و لكن سرعان ما عادَ إلى التفكير و الاستسلام لتداعي الأفكار        و لنشاط الذاكرة التي كانت خامدة …
نظر إلى شهادة التكريم و عادَ إلى الوراء … إلى ذلك اليومِ المغروس في ذاكرته منذ ثلاثين عاماً … فيه تسلَّمَ قرار التعيين بفرح غامرٍ و إرادةٍ متوقّدة .. و بعد فترةٍ استسلمَ للتفكير حينها، و صحبه فتورٌ            عجيب … لا يريد تفسيراً لفرحِهِ و لا يحاول معرفة سبب فتوره عندها قال : (( المرءُ أقدرُ على قراءة نفسه و تحليلها … )) و هي العبارة التي اصطادَها من مدّرس علم النفس التربوي … حقَّقَ أمنيّة طالما سعى إليها و تمنَّاها … كان يتابع أستاذَ التاريخ بأناقته و ثقته … أعطاهُ كثيراً من الاعتبار .. كان يقرأ التاريخ بحياديّة و عقليّة متفتّحة … و هذا أمرٌ هامٌ بالنسبة له … عاش نبيل طفلاً عاديّاً تحيطُ به أسرة أمِّيّةٌ لا تعرف القراءة و لا تقدِّرُ العلمَ و المتعلّمين                   و مرَّة شكا أمرَه لأستاذِهِ فقال له : ( يا نبيل ! المرءُ عدوُّ ما يجهل …  ) تذكَّرَ قَلقَهُ و هو متوجِّهٌ إلى تلك القرية النائية سيـبتعد عن والديه و أختِهِ العانسِ … إنه أمامَ تجربة جديدةٍ بعيداً             عن محيطه …
ركب حينها سيارة أكل عليها الدهر و شربَ … كانوا يسمّونها ( البوسطة ) تَنْهَبُ الطريق على دفعات  و محطّاتٍ كثيرةٍ ينظر إلى الركاب و يقرأ معالمَ الوجوهِ … ثم يرمي نظرةً إلى الأراضي الجرداء … و هو الوحيد الذي لا يتكلّم باستثناءِ قراءته لصحيفة بين يديه … يقطعُ عليه صمتَهُ صوتُ بعضِ الحيوانات التي حظيت بشرف مصاحبته …
يتذكر من جديدٍ ، و ينتقل إلى مرحلةٍ أخرى … تتوقّفُ السيَّارة ثم يتابع السيرَ على قدميه … إلى أين ؟! إلى قرية تُدْعى (( المهدومة )) تناثرت بيوتها هنا و هناك … و عندها تذكَّرَ معلقة امرئ القيس الذي بكى و أبكى و اشتكى … خالطَهُ شيْءٌ من الرهبة …
كيف أعيش هنا ؟ .. كيف سأمضي الوقت ؟ و لأجلِ مَنْ جئْتُ ؟ ..
تناثرت نظراتُهُ و تتشتَّتُ هنا و هناك … القرية خاوية سوى بعض البيوت … نظر من جديدٍ حوله …   و جاءتْ نظرتُهُ وليدةَ خيبة … فقد كان يتوقَّعُ التفافَ الأولادِ و أهلِ القرية حوله … تصوَّرهم يسرعون مبتهجين و مرحِّبين … أبدى تضايقه … تذمَّر … سأل عن بيت المختار … و كانت أمامه خيبة أخرى .. القرية لا يوجد فيها مختار … و لا حاجة للمختار بعد سوء معاملة المختار السابق … و عندما ماتَ فَرِحَ الجميعُ و لكنهم كتموا فرحَهُمْ في أعماقهم … سأل عن المدرسة … جاءَتهُ الإشارةُ مصحوبةً بنـزقٍ و جفوةٍ : - .. هناك عند الأغنام ِ و الأبقارِ …  انظر … على سطحها دجاجةٌ و ديك …  
ذهب وحيداً يجرُّ الحَيْرةَ و سأل نفسهُ :
أين الشّجَرُ ؟ أينَ العطاءُ ؟ أينَ الخضار ؟ أينَ الأولادُ ؟ و أخيراً قال : أين أنا ؟ ..
لم يجد سوى شجيرات طاعناتٍ رماهنَّ الفقرُ و الجفاف .. إحدى الشجيرات تمازُحها نعجة و حولها أطفالٌ يُقَطِّعون أغصانها … تقرَّبَ أحدهم قائلاً :
خذ يا أستاذ – إنَّهُ قضيبٌ سيلزمك كثيراً …
قال له الأستاذ : - لن تحتاجوا إليه إن شاء الله … و تابع الطفلُ من جديد : - سيلزمك لتبعد عنك الذباب و الحشرات … بعد أيَّام تحبُّ القرية و تحبُّك … و أمضى سنوات سعيدةً رائعة الخضرة …
ها هو نبيل في طريقه إلى بيته وحيداً ، يحمل قرار التقاعد ، و شهادة التكريم و بطاقة الدعوة ،    و هو يفتِّش عن شخصِ ثانٍ يصطحبه للمطعم … بيده عصا يتكئ عليها … طريقهُ مزدحمةٌ … الأرصفة مكتظةٌ بالسيَّارات و الأبنية و الناس …
كان التفكير جيشاً من الوساوس و كتيبة من التساؤلات يحاول أن يربط بين سنواتٍ مضَتْ و أيَّامٍ      تبقَّتْ … قطع عليه تفكيرَهُ سهمٌ جارِحٌ من سائقٍ أرعن … (يضربك العمى) … أين عيناك  ………
هزَّ نبيلٌ رأسَهُ و قال لهُ : أنتَ لم تمرَّ على أستاذٍ في حياتك يا ولدي …



 
  محمودمحمدأسد- سوريا (2011-09-15)
Partager

تعليقات:
محمودمحمد اسد /سوريا- حلب 2011-09-17
أشكرك أخي سعيد وأقدر فيك متابعتك ومحبتك وذوقك
البريد الإلكتروني : mahmoudasad953!gmajl.com

سعيد بوعيطة /المغرب 2011-09-15
الأستاذ الكريم محمود نشكرك على هذا النص المتميزلك مني التحية و التقدير سعيد بوعيطة المغرب
البريد الإلكتروني : bouaita10@gmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

اغتـيـال مُتـَقاعِـد-محمودمحمدأسد- سوريا

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia